قال الله تعالى في سياق آيات المناسك:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} فأمر تعالى بأن يلهج الحجاج بذكره سبحانه كما يلهجون بذكر آبائهم أو أشد والمعنى على ما قال جماعة من المفسرين رحمهم الله تعالى على أمرين:
المعنى الأول: أن يلهجوا بذكر الله تعالى كما يلهج الأطفال بذكر آبائهم وأمهاتهم مما يدل على شدة التعلق بالله تعالى وذلك لأن الطفل لا يعرف إلا أباه وأمه فتعلقه بهما شديد وهكذا حال من لا يعرف إلا ربه جل وعلا فهو الذي يستحق أن يلهج بذكره آناء الليل وآناء النهار لعظم حقه وكمال حبه وكثرة إحسانه وشدة تعلق قلوب العباد به.
المعني الثاني: فإن أهل الشرك كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا عند الجمرات وأخذ الشخص منهم يعدد مآثر آبائه وأجداده على وجه التمدح والتعاظم والتفاخر على الآخرين فأمر الله تعالى أهل الإيمان أن يذكروا الله تعالى بعد فراغهم من مناسكهم وأن يثنوا عليه أكثر مما يتمادح أهل الجاهلية بآبائهم ويعددوا من مآثرهم ومفاخرهم فإن حق الله أعظم وإحسانه أجل.
والآية على كل من التقديرين توجه إلى كثرة ذكر الله تعالى والمبالغة في الثناء عليه بما هو أهله وإظهار الافتقار إليه في ختام المناسك لعظم حقه وكثرة ما أنعم به مع صدق الضراعة إليه أن يمن بالعفو وأن يختم بالقبول وأن يمنح عباده الجليل من مطالب الدنيا والآخرة وأن يحسن الختام والمنقلب ولهذا ذكر سبحانه أنواع الناس في المطلب والاحتياج إلى الله تعالى. فمنهم من همه الدنيا ولا رغبة له في الآخرة لقصور نظره ونقص عقله وقلة فقهه ، إذ ملأت الدنيا قلبه فأعمته عن آخرته ولهذا أشار الحق إليه بقوله سبحانه: {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله وشتت ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
وأما الصنف الآخر الموفق فهو الذي جعل الآخرة همه ولم ينس نصيبه من الدنيا لفقهه في دينه وعلمه بقيمة آخرته وأن طلب الآخرة يأتي على مطالب الدنيا والآخرة وقد أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ومن كانت الدنيا همه جمع الله له ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة.
فينبغي للحجاج في ختم مناسكهم أن يلهجوا بذكر الله تعالى والضراعة إليه وأن يكون جل مطلبهم الفوز بالأرباح في الآخرة ولا يفوت ذلك عليهم من دنياهم شيئاً فإن ذكر الله تعالى ودعاءه هو مخ العبادة وحقيقة التوحيد والوسيلة العظمى لتحصيل المطالب وعلي المراتب في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.